فصل: من أجمع ما قيل في المحبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أجمع ما قيل في المحبة:

ولَو عَذَّبْتَني في النارِ حتْمًا ** دخلتُ مُطاوعًا وسْطَ الجَحِيمِ

إذا كَانَ الجَحِيمُ رِضَاك عَنِّي ** فَمَا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيمِ

الإشارة: المحبةُ: مَيلٌ دائم بقلب هائم، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وقال الشِّبْلِي: أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصّنًا بمعروفه، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته، والعبد يستزيد من محبته فيزداد، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون... إلخ كلامه.
واعلم أن محبة العبد لمولاه سببُها شيئان:
أحدهُما: نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه، وجُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها، وهذا هو المسمى بحب الهوى، هو مكتسب، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه، ومتمكن من النظر فيها، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله التي لا تقبل الحصر ولا العدَّ، كان ذلك كحَبة زُرعت في أرض قلبه الطيب الزكي، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة، وكلُّ منّة أعظم من التي قبلها، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وزداد إيمانًا، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ، وظهر له خفايا المنن، وعظمت محبته.
الثاني: كشْف الحجب، وإزالة الموانع عن ناظر القلب، حتى يرى جمال الحقّ وكماله، والجمال محبوب بالطبع، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية رضي الله عنها:
أُحِبُّكَ حُبَّين: حُبَّ الهَوَى ** وحُبًّا لأنك أهلٌ لِذَاكَ

فأمَّا الذي هو حُبُّ الهَوى ** فَشُغْلي بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ

وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ ** فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ

فَلا الحمدُ في ذَا ولا ذَاك لي ** ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ في ذَا وذاكَ

وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول، وإن كان أهلًا للجميع؛ لأن هذا منه إليه، لا كسب للعبد فيه، والآخر فيه كسب، وعمل العبد معلول، وقولها: فشغلي بذكر عمن سواك من باب التعبير بالمسبب عن السبب، والأصل: فثمرته شغلي بذكرك عمن سواك، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا، وقولها أيضًا كشفك للحجب حتى أراك، من باب التعبير بالسبب عن المسبب، والأصل، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَيْ قلبي. وقولها: فلا الحمد... الخ، إخبار منها بأن الحُبَّيْن معًا منه وإليه وبه في الحقيقة، لا كسب لها في واحد منهما باعتبار الحقيقة، بل هو الحامد والمحمود، وإدراك التفاوت بين المقامين،- أعْني بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان، والناشئة عن شهود الجمال- ضروري عند كل ذائق، وأن الثانية أقوى. قاله في شرح الشريشية.
قال ابن جُزَيّ: اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين؛ أحدهما: المحبة العامة، التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد فيها العلماء الربَّانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنَّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف والرجاء والتوكل، وغير ذلك، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، والراجي إنما يرجوا منفعة نفسه، بخلاف المحبة، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
واعلم أن سببَ محبةِ الله: معرفتُه، فتقوى المحبة على قدر المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال؛ فالموجب الأول: الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإن الإنسان بالضرورة يجب كل ما يُستحسن، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى، في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تَرُوق العقول وتبهج القلوب، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار.
وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصي، وإلا المؤمن والكافر، وكل إحسان ينبس إلى غيره فهو في الحقيقة منه وحدَه، فهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجد في طاعته، والنَّشَطِ لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأُنْس بذكره، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل ما يحب الله، وكل من يحب الله، وإيثار الله على كل ما سواه.
قال الحارث المحاسبي: المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك، ثم موافقته سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه.
قلت: ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلًا، بخلاف المحبة، فإنها تكون بقية الحجاب، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق، والعارف لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء.
قال في الحِكَم: إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء، ولو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء.
وأيضًا العارف أكمل أدبًا من المحب؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب، مع أن المعرفة هي غاية المحبة ونهايتها، والله تعالى أعلم. اهـ.

.بحث جامع في المحبة للفيروزابادي:

بصيرة في الحب والمحبة:
ولا يُحدّ المحبّة بحدّ أَوضح منها، والحدود لا تزيدها إِلاَّ خفاءً وجفاءً فحدّها وجودها. ولا توصف المحبّة بوصف أَظهر من المحبّة، وإِنَّما يتكلَّم النَّاس في أَسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأَحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستّة.
وهذه المادّة تدور في اللُّغة على خمسة أَشياءَ:
أَحدها الصّفاء والبياض ومنه قيل حَبَب الأَسنان لبياضها ونضارتها.
الثانى: العُلُوّ والظُّهور ومنه حَبَب الماءِ وحَبَابه وهو ما يعلوه من النفاخات عن المطر، وحَبب الكأْس منه.
الثالث: اللُّزوم والثبات ومنه حَبَّ البعير وأَحبّ إِذا برك فلم يقُم.
الرَّابع: اللُّباب والخلوص. ومنه حَبّة القلب لِلبّه وداخله. ومنه الحَبّة لواحدة الحبوب إِذا هي أَصل الشيء ومادَّته وقوامه.
الخامس: الحفظ والإِمساك ومنه حُبّ الماءِ للوعاءِ الذي يُحفظ فيه ويمسكه، وفيه معنى الثُّبوت أَيضًا.
ولا ريب أَنَّ هذه الخمسة من لوازم المحبّة، فإِنَّها صفاءُ المودّة وهَيَجان إِرادة القلب وعلوّها وظهورها منه لتعلُّقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوم لا تفارق، ولإِعطاءِ المحبّ محبوبه لبّه وأَشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عَزَماته وإِرادته وهُمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعانى الخمسةُ.
ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للشَّئ غاية المناسبة: الحاء التي من أَقصى الحَلق والباء للشفة التي هي نهايته، فللحاءِ الابتداء وللباء الانتهاء، وهذا شَأْن المحبّة وتعلُّقها بالمحبوب، فإِنَّ ابتداءَها منه وانتهاءَها إِليه.
ويقال في فعله: حبَبت فلانًا بمعنى أَصبت حَبَّة قلبه، نحو شَغَفته وكَبَدته وفأَدته، وأَحببت فلانًا جعلت قلبى مُعَرَّضًا لأَن يُحِبّه. لكن وضع في التعارف محبوب موضعَ مُحَبّ واستعمل حبَبت أَيضًا في معنى أَحببت، ولم يقولوا مُحَبّ إِلاَّ قليلًا قال:
ولقد نزلتِ فلا تظنى غيره ** منى بمنزلة المُحَبّ المكرم

وأَعطَوْا الحُبّ حركة الضمّ التي هي أَشدّ الحركات وأَقواها، مطابَقة لشِدّة حركة مسمَّاه وقوّتها، وأَعطَوُا الحِبّ وهو المحبوب حركة الكسر لخفَّتها عن الضمَّة، وذلك لخفَّة ذكر المحبوب على قلوبهم وأَلسنتهم مع إِعطائه حكم نظائره كنِهْد وذِبْح للمنهود والمذبوح وحِمْل للمحمول، فتأَمّل هذا اللُّطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين اللَّفظ والمعنى يُطلعْك على قَدْر هذه اللغة الشريفة وإِنَّ لها لشأْنا ليس كسائر اللغات.
وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة من التنزيل الحميديّ منها {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ} {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} {وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} وقال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال تعالى: {إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أَى آثروه عليه. وحقيقة الاستحباب أَن يتحرّى الإِنسانُ في الشيء أَن يحبّه. واقتضى تعديتُه بعَلى معنى الإِيثار، وفي الحديث الصّحيح «إِذا أَحبّ الله عبدًا دعا جَبْرئيلَ فقال: إِنى أُحِبُّ فلانًا فأَحِبَّه فيحبّه جبرئيل، ثم ينادى في السّماءِ فيقول: إِنَّ الله يحبّ فلانًا فأَحِبُّوه فيحبّه أَهْلُ السّماءِ، ثمّ يوضَع له القَبولُ في الأَرض» وفي البُغْض ذُكِر مثل ذلك. وفي الصّحيح أَيضًا: «ثلاث مَن كُنَّ فيه وَجَد بهنّ حلاوة الإِيمان: أَن يكون الله ورسولُه أَحبَّ إِليه مِمَّا سواهما، وأَن يحبّ المرءُ لا يحبّه إِلاَّ لله».
وفي صحيح البخاريّ: يقول الله تعالى: «مَن عادى لى وليًّا فقد آذَنْتُهُ بالحرب، وما تقرب إِليّ بالنَّوافل حتَّى أُحبّه فَإِذَا أَحببته كنت سمعَه إلى يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطِش بها ورجلَه التي يمشى بها وإِن سأَلنى أَعطيته ولئن استعاذنى لأُعيذنَّه». وفي الصّحيحين من حديث أَمير السّريَّة الذي كان يقرأُ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} لأَصحابه في كلِّ صلاة وقال: لأَنَّها صفة الرّحمن وأَنا أُحبّ أَن أَقرأَ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَخبروه أَنَّ الله يحبّه» وعن التِّرمذى عن أَبى الدَرداءِ يرفعه: «كان مِن دعاءِ داود عليه السّلام: اللهمّ إِنِّى أَسأَلك حبّك وحبّ من يحبّك، والعملَ الذي يبلِّغنى حبَّك اللَّهم اجعل حُبّك أَحبّ إِليّ من نفسى وأَهلى، ومن الماء البارد». وفيه أَيضًا من حديث عبد الله بن يزيد الخَطْمِيِّ أَنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول في دعائه: «اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ مَن ينفعنى حبُّه عندك اللهمّ ما رزقتنى ممّا أُحبّ فاجعله قوّة لى فيما تحبّ، وما زَوَيت عنِّى ممّا أُحبّ فاجعله فراغًا لى فيما يحبّ».
والقرآن والسنَّة مملوءَان بذكر مَن يحبّ اللهُ سبحانه من عباده، وذكر ما يحبّه من أَعمالهم وأَقوالهم وأَخلاقهم. فلا يلتفت إِلى مَن أَوَّل محبّته تعالى لعباده بإِحسانه إِليهم وإِعطائهم الثواب، ومحبّةَ العباد له تعالى بمحبّته طاعته والازدياد من الأَعمال لينالوا به الثواب، فإِن هذا التأْويل يؤدّى إِلى إِنكار المحبّة، ومتى بطلت مسأَلة المحبّة بطلت جميع مقامات الإِيمان والإِحسان، وتعطَّلت منازلُ السَّيْر، فإِنَّها رُوح كلِّ مَقَام ومنزلةٍ وعمل، فإِذا خلا منها فهو ميّت، ونسبتها إِلى الأَعمال كنسبة الإِخلاص إِليها، بل هي حقيقة الإِخلاص، بل هي نفس الإِسلام، فإِنَّه الاستسلام بالذُّل والحُبّ والطَّاعة لله. فمن لا محبَّة له لا إِسلام له البتَّة.
ومراتب المحبّة عشرة: الأَوّل العلاقة والإِرادة والصبابة، والغرام وهو الحبّ اللاَّزم للقلب ملازمةَ الغريم لغريمه، ثمّ الوُدّ وهو صفو المحبّة وخالصها ولُبّها، ثمّ الشغَف، شُغِفَ بكذا فهو مشغوف أَى وَصَل الحُبّ شَغَاف قلبه وهو جِلدة رقيقة على القلب، ثمّ العشق وهو الحبّ المفرط الذي يُخاف على صاحبه منه، وبه فسّر {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ثمّ التَتَيُّم وهو المحبّة والتذلُّل، تَيَّمه الحُبّ أَى عَبَّده وذَلَّله وتَيْم الله عَبْد الله، ثمَّ التعبّد وهو فوق التتيُّم فإِنَّ العبد الذي مَلَك المحبوبُ رِقَّه فلم يبق له شيء من نفسه البتَّة، بل كلُّه لمحبوبه ظاهرًا وباطنًا. ولمَّا كَمّل سيّد ولد آدم هذه المرتبة وصفه الله بها في أَشرف مقاماته بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وفي مقام الدّعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وفي مقام التحدّى {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وبذلك استحقّ التقدّم على الخلائق في الدّنيا والآخرة. العاشر: مرتبة الخُلَّة التي استحقّ التقدّم على الخلائق في الدّنيا والآخرة. العاشر: مرتبة الخُلَّة التي انفرد بها الخيلان إِبراهيم ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام؛ كما صحّ عنه «إِنَّ اللهَ اتَّخذنى خليلًا كما اتَّخَذَ إِبراهيم خليلًا».
وقال: «لو كنت متَّخِذًا من أَهل الأَرض خليلًا لاتَّخذتُ أَبا بكر خليلًا ولكن صاحبكم خليل الرّحمن» والخلَّة هي المحبّة التي تخلَّلْت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه.
والأَسبابُ الجالبة للمحبة عشرة:
الأَول: قراءَة القرآن بالتَّدبّر والتفهُّم لمعانيه وتفطُّن مراد الله منه.
الثانى: التَّقَرّب إِلى الله تعالى بالنَّوافل بعد الفرائض؛ فإِنَّها توصِّل إِلى درجة الحبوبيَّة بعد المحبّة.
الثالث: دوام ذكره على كلِّ حال باللٍّسان والقلب والعلم والحال فنصيبه من المحبّة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: ايثار مَحَابِّه على محابّك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأَسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلُّبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرَف الله بأَسمائه وصفاته وأَفعاله أَحبّه لا محالة.
السادس مشاهدة بِرّه وإِحسانه ونِعمه الظَّاهرة والباطنة.
السابع: وهو من أَعجبها- انكسار القلب بكلِّيَّته بيْن يديه.
الثامن: الخَلْوة به وقت النُّزول الإِلهيّ لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقالب والقلب بين يديه، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتَّوبة.
التَّاسع: مجالسة المحبّين والصّادقين والتقاطُ أُطايب ثمرات كلامهم وأَلاَّ يتكلم إِلاَّ إِذا ترجّحت مصلحةُ الكلام وعَلِم أَنَّ فيه مزيدًا لحالِهِ.
العاشر: مباعدة كلِّ سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجَلَّ.
فمن هذه الأَسباب وصل المحبّون إِلى منازل المحبّة، ودخلوا على الحبيب وفي ذلك أَقول:
تِلاوةُ فهمٍ معْ لزوم نوافل ** وذكرٌ دوامًا وانكسارٌ بقلبه

وإِيثار ما يُرْضِي شهودَ عطائه ** ووقت نزول الحقّ يخلو بربّه

مطالعة الأَسما مجالسة القُدَى ** مجانبه الأَهوا جوالب حُبه

قال سهل بن عبد الله: علامة حُبِّ الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبيّ صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبيّ وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسِه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبُلْغَة.